الثلاثاء، 18 مارس 2014

دورالمراقد في نهضة الشعوب


                                         


دورالمراقد في نهضة الشعوب







إنّ أهم شيء يتوصل إليه الباحث لتاريخ المراقد هو مدى التأثير الإيجابي الذي تتركه هذه المراقد في المجتمعات المحيطة بها، وذلك لارتباطها الوثيق بمعتقدات تلك الشعوب، ممّا يخلّف تلاحماً وثيقاً واندماجاً روحياً يؤدّي إلى مدّ الجسور بين أبناء الشعوب في مختلف مجالات الحياة، ولعلّ من أبرز هذه الأدوار هو الدور: الديني، الثقافي، العلاقاتي، السياسي، الاقتصادي، الفني، والعمراني. وهذه الأدوار تستحقّ مناقشتها نقاشاً علمياً، وتستأهل أن تُفرد لها مجلدات يتولى أمرَها متخصّصون في مختلف العلوم الاجتماعية والعلمية، إذ لا يقتصر البحث على تلك التي أشرنا إليها بل هناك أمور نفسية (1) .


الدور السياسي للمراقد
السلطات والحكومات الجائرة ـ ومنذ اليوم الأول ـ قامت وارتكزت على الكذب والزيف وتغيير الحقائق وخداع الشعوب واستغفالها.
فمن الطبيعي أنّ لكل شعب معتقداته ومفاهيمه وتقاليده ومقدساته، إضافة إلى تصوراته الخاصة حول الكون والحياة وأمور الدين والمعتقد، والحكومات اللاشرعية التي لا تراعي الأُسس الإنسانية والإلهية حاولت وتحاول ومنذ العهد الأول استخدام واستغلال عواطف ومشاعر الناس لمصالحها، والتي من أهمها على الإطلاق دعم بقائها في الحكم وتثبيت ركائزه، فنراها تهيج عواطف الشعوب إن سلباً أو إيجاباً لتثبيت أمر ما أو لدفع ضرر يحيق بها، ولكنها تغفل العواقب السيئة في الأمد البعيد، لأنها لا تنظر إلى أبعد من أنفها ولا تفكر للمستقبل وللتاريخ، إذ ليس من المعقول وحسب منطقها التخلّي عن مصالحها الآنية، فعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة. لذا فان كل التبعات والسيئات ومظالم المجتمع تقع على كاهلها لأنها هي التي سيّرت الشعوب في الاتجاه الذي ترضاه وفقاً لمصالحها، وما زالت سياستها قائمة على القتل والتشريد بحق شعوبها من أجل قبول اتفاقية أو تمرير مؤامرة سياسية، كان من الصعب تنفيذها أو تمريرها مباشرة دون اللجوء إلى السبل المزيفة والمخادعة وما أكثرها، ولنا على ذلك أمثلة كثيرة حية تنطق بالحق نتجنب ذكرها خوفاً من تحسس مرارة الحق (2) .
وإذا كانت هذه الحكومات على حق وجاءت لمصلحة شعوبها وأبنائها، فَلِمَ كل هذا الاضطهاد والعسف والتشريد والتهجير والقتل والدمار دون أدنى رأفة ورحمة ؟!
وعودة إلى صلب موضوعنا ألا وهو الدور السياسي للعتبات المقدسة وأثرها في رسم أطر الدول ونهجها، ولعلنا للوهلة الأولى لا ندرك مدى تأثير هذا الدَّور، أو ربما ننسب تأثيره للماضي البعيد بسبب تطور أساليب الحكم وتغير نهج الدول في الوقت الحاضر، ولكن الأمر يتضح بمجرد دراسة الوضع السياسي لدول اليوم فنجد أن الحقيقة في الماضي والحاضر واحدة، وهي أنّ الدول تقام على أكتاف الشعوب، وأن الدوافع والمصالح السياسية للدول والحكومات كانت على الدوام هي السبب الرئيسي لتحريك عواطف الشعوب وتسخير معتقداتها.
وإذا راجعنا تاريخ الماضي والحاضر، وتمكنا من دراسته بإمعان وبصيرة وفهم معطياته وتحركات دوائر الحكم وقواه السياسية ومناورات السلطات وقارناها مع الحاضر، لظهرت لنا حقيقة واحدة لا مفرّ منها وهي أن التاريخ يعيد نفسه، وأن للحكم ثوابتَ لا تتغير وإنما المتغير منها هو الأساليب فقط.
فلدى مراجعتنا لتاريخ الروضة الحسينية نرى أن الدول التي أرادت فرض سيطرتها على منطقة الشرق الإسلامي كلاً أو بعضاً، إسلامية كانت أم أجنبية، مباشرة كانت أو غير مباشرة، لجأت إلى سياسة الترغيب والترهيب، وسياسية العطف والعنف، بدءاً بالدولة الأموية ومروراً بعهود الظلم التي توالت على حكم عالمنا الإسلامي وانتهاءً بالدول العظمى التي حشرت أنفها في المنطقة بغرض السيطرة عليها واستنزاف قدراتها الماديّة والمعنوية. فمنذ اللحظة الأولى التي استُشهد فيها الإمام الحسين عليه السّلام وضع الحكم الأموي العقبات والموانع متشبثاً بكل الوسائل والحجج لمنع الناس من زيارة قبره الشريف، وما ذلك إلا لمعرفة الحكّام الأمويين بعظمة الراقد في هذا المرقد وعلمهم بعمق تأثيره في النفوس التي تستلهم منه القوة والعزم والإصرار على الثورة ضد الظالمين، فمراسم زيارة القبر من دعاء وأعمال إذاً عمل سياسي مُعارِض في عرف بني أُمية يجب وقفه بشتى السبل والطرق.
لقد كان لهذا القبر الشريف الحي بنهضته والدائم الإشعاع أثر بالغ الوقع والتأثير في الكثير من الأحداث والوقائع والثورات على مر العصور والأزمان. ومن ذلك وقفة التوّابين (3) على قبره الشريف ومخاطبتهم إياه؛ ليطلبوا التوبة عنده وليستمدوا منه العزم والقوة لمحاربة الأعداء، إيماناً منهم بأن حياة الفكر أبقى من حياة الجسد. ثم تأتي ثورة المختار الثقفي (4) لتستثمر حب وعواطف الناس وإيمانهم بعظمة الإمام الحسين عليه السّلام وأنصاره، فتثور على الدولة الأموية ذات الشوكة والبطش.
وما أن تولّى المروانيون الأمر حتّى منعوا من جديد زوار قبره الشريف دون أن يجرؤوا على مسّ القبر المطهّر خوفاً من خدش مشاعر الناس ومعتقداتهم، ولكنهم حاولوا كأسلافهم السير بذات النهج المخادع للبقاء في الحكم، فعملوا بكل وقاحة وحقد على سبه وشتمه وهو الراقد البعيد عن عاصمة ملكهم، لا لشيء إلاّ لمحو ذكره وتشويه صورته في أذهان العامة من الناس، ليستتب لهم الأمر ويدوم لهم الملك.
ولكن هيهات أن يهنأ لهم الحال وتستقر بهم الأمور إذ قامت هنا ثورة زيد (5) وهناك ثورة صاحب « فخ » (6) فتُولَد ثورة من رحم ثورة، وتتواصل الثورات والانتفاضات لتطالب بالثأر لهذا الراقد تحت الثرى.
واستغلّ العباسيون سوء الوضع وتردّيه على أثر العنف المتزايد الذي استخدمه الأمويون بحق أتْباع ومحبّي هذا المدفون بكربلاء، فقاموا وباسم قرابة الدم بتأليب الوضع وإثارته من أدنى البلاد إلى أقصاها مستغلين حب الناس وتعلقهم وإخلاصهم لهذا الراقد الأشم.
ولما آل الأمر إليهم واستتب لهم الحكم ورسخ سلطانهم، كُشف عنهم القناع وظهر زيفهم بعد طول كذب ومواراة، فجاء المنصور العباسي (7) ليأمر بهدم قبر الحسين عليه السّلام ويمنع الموالين من زيارته، وأعقبه هارون (8) فنهج نهجه إلى أن وصل المتوكّل (9) إلى الحكم فحرث القبر أربع مرات؛ أملاً في محو أثره وذكره من القلوب والنفوس، وهو بفعلته هذه أجّج غضب الناس وكرّه نفسه فرموه بأشعارهم، ورجموه بكلماتهم (10) ، وعلى اثر ذلك قتله ابنه (11) شرَّ قتلة عقاباً له لحرثه قبر من دفن قبل عشرات السنين بأرض الطف.
نعم اقتضت سياسة الحكومات والإمبراطوريات التي تعاقبت تعظيمَ هذا القبر وإعماره، بينما سعت أخرى إلى هدمه ومحاولة إطفاء نوره، ولكنْ أبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره.
فهنالك حكومات عربية وتركية وفارسية وتركمانية كانت تتسابق تارة إلى إبداء احترامها وإظهار تقديسها لهذا القبر وتبجيله وصرف المبالغ الطائلة التي قُدّرت بملايين الدنانير الذهبية من أجل إعماره، وتارةً تأتي حكومات أخرى لتنهب هذه الأموال أو لتصرفها على جندها وعتادها.
كل هذا يشير إلى ما لهذا القبر الشريف من أهمية سياسية في هذه المنطقة الحساسة والمهمّة من عالمنا الإسلامي، فعلى الحب والولاء أو البغض والمعاداة لصاحب هذا القبر المطهر، حكَمَ سلاطينٌ وولاة وهوَت عروش وكراسٍ وقُتل ملوك وقادة، وإلى هذا يشير الكليدار (12) لدى تطرّقه لزيارة السلطان سليمان القانونيّ لقبر الإمام الحسين عليه السّلام وأبيه أمير المؤمنين عليه السّلام والكيفية التي زارهما بها من إبداء الخضوع والخشوع والترجّل من مسافة بعيدة، فما أن وقعت عيناه على القبّة المنورة حتّى ارتعشت أعضاؤه فلم يستطع الركوب على الفرس، فأنشد يقول:
تزاحمُ تيجانُ الملوك ببابِهِ
ويكثرُ عند الإستلام ازدحامُها
إذا ما رأتْه من بعيدٍ ترجّلَتْ
وإنْ هيَ لم تَفعل ترجّل هامُها
ويُستنتج من ذلك مدى ما كان للعتبات المقدسة في العراق من القوة والنفوذ والتأثير في التوازن الدوليّ في الشرق الإسلامي، وإلى أيّ درجة كان السلطان سليمان القانوني (13) بطل الحروب والفتوح الذي دوّخ أوروبا مدةَ حكمه فطوى رقعة البلاد الأوروبية الشرقية فوقف على أبواب ( فيينا ) (14) عاصمة أعظم إمبراطورية في ذلك الوقت، يحاول التقرّب إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف ويسعى في جلب رضاها وكسب ودّها، فأين صارت قوّتها المعنوية تلك ؟ ومَن قضى عليها يا ترى ؟!
فإنّ ما قام به من خدمات جليلة للعتبات المقدسة، ثم استمداده من أرواح الأئمّة فترجّله عن الفرس عند رؤيته القبةَ المنوّرة عن بُعد ومسيره مشياً على الأقدام إلى النجف، وقطعه لسان مَن كذّب قصة مُرّة بن قيس(15) ، وقتله مَن فضّله على أمير المؤمنين لكونه الخليفة الحي، فلم يكن ذلك كلّه كسب ودّ العتبات المقدسة إلى جانبه، تلك العتبات التي كان لها التأثير البليغ في التوازن الدولي في الشرق و « كان يشعّ منها نفوذ قويّ الوقع » (16) ، فكان يتوقّف عليه مصير السلطان وحكمه في هذه البلاد (17) ضدهم بأمل كسر شوكتهم ووَقْفِ تقدّم الجيش البريطاني والدعوة لالتحاق الفارين من الجيش العثماني من أبناء جنوب العراق، ومن تلك السبل تشويه سمعة وتصرفات الجيش البريطاني في نظر الشعب العراقي وكل الشعوب المسلمة، فقامت الحكومة العثمانية بنشر إشاعات ودعايات تذكرهم بسوء، منها ما ذكره طعمة (18)قائلاً:
« ذكرت الجريدة الرسمية ـ صدى الإسلام ـ (19) أن الإنكليز يأتون بأطباء وطبيبات لتلقين المريض المسلم الديانة المسيحية، وأنهم يضربون الناقوس ضرباً شديداً وقت الأذان كي لا يسمع المؤمنون ( لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله ). وعندما ذكر الناس ذلك للحاكم العسكري أجابهم: ( قريباً ندقه على منابر كربلاء والنجف وقبة عبدالقادر الكيلاني ) (20) ، ( وأن الاحتلال يسيطر على أوقاف المعابد الإسلامية وينفق أموالها على الكنائس ) (21) . كما قامت حكومة الاحتلال بخطوة معاكسة لتشويه صورة العثمانيين في أذهان الناس في العراق فدرجت جريدة العرب (22) الرسمية الموالية للبريطانيين على الضرب على أوتار النعرة الطائفية للعثمانيين وإبراز محاسن المحتلّ البريطاني وإظهار إحترامه للمقدسات الدينية وأماكن العبادة، وفي هذا الصدد تذكر الجريدة ما حدث في كربلاء بقولها: « إذ رمى الأتراك قنابلهم على القبة المطهرة ـ قبة الحسين عليه السّلام ـ وقذفوا مئات مثلها على الساعة الكبيرة في الروضة العباسية المقدسة (23) ، وفي معرض الإثارة هذه نسبت الصحيفة في نفس العدد إلى القائد العام التركي خليل باشا قوله: « لأخرّبنّ وأنسفنّ ضريحَي الحسين وعليّ بن أبي طالب وأنقل ما فيهما إلى المدينة »، وتهدف الإثارة إلى نفي أن يكون للعثمانيين خدمة لهذه الرياض المقدسة حيث تُوجِّه الجريدة سؤالها إلى القراء فتقول: « وهل سمعت في حياتك أنهم خدموا الروضات المطهّرة خدمةً تُذكر ؟! » (24) .
على أن ملوك إيران عندما كانوا يأتون للزيارة فإنهم كانوا يبيتون خارج المدينة تهيؤاً واستعداداً للقاء هذا المدفون تحت الثرى منذ وقعة الطف الدامية، ثمّ يَقْدمون إلى حرمه في أتم الخشوع والتجرد فيقبّلون عتبة باب روضته مستأذنين الدخول، ويعكفون الليل عنده بالدعاء والتوسل، نخصّ منهم الديالمة البويهيين (25) والصفويين (26) وغيرهم. أما الوهابية (27) التي حكمت الحجاز ونجد (28) ، فإنّها أغارت على مدينة كربلاء (29) وهتكت حُرمة كل خزائنه وتحفه النفيسة لتتمكّن بما استحوذته من ثروة من نشر مبادئها وتعاليمها وإقامة حكومتها في الجزيرة العربية، على أن القرامطة (30) والشعشاعيين (31) كانوا قد سبقوهم في فعل النهب والسرقة من الحرم الحسيني.
وعلى عكس هؤلاء تماماً يقتبس غاندي محرّر الهند قبساً من نور وفكر سيد الشهداء عليه السّلام، فيرسم لنفسه منهاجاً مستوحىً من نهج الحسين ويسلك طريقاً عبّده أبو الأحرار مِن قَبله، إذ يقول قولته المشهورة: « تعلّمتُ من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ».
وإلى سنين خلت من زماننا المعاصر نرى أن بهلوي الثاني (32) يترك بلاده هارباً على أثر ثورة مصدّق (33) النفطية فيزور مرقد الإمام الحسين عليه السّلام ويقف أمام ضريحه طارقاً برأسه باكياً متوسلاً راجياً العودة للحكم والسلطة، فتقوم الصحافة الموالية بنشر الخبر وتصوّره وهو بهذا الحال من الخشوع والمسكنة لتستميل عواطف الشعب الإيراني بمظهر المتديّن الموالي.
إن هذه الظواهر والتصرفات لا يمكن تفسيرها وفهم مدلولاتها وأبعادها الحقيقية إلا حينما ندرك البعد السياسي العظيم لصاحب هذا القبر الشريف.
على أن ملوك ورؤساء وأمراء العالم وشخصياته البارزة كانوا لدى زيارتهم للعراق يقصدون زيارة الإمام الحسين عليه السّلام ليثبتوا لشعوبهم ومريديهم ولاءهم لصاحب القبر، وليبرهنوا بأنهم على خُطاه وخطى جده صلّى الله عليه وآله وأبيه عليه السّلام علّ ذلك ينفعهم للبقاء أو الوصول إلى الحكم.
وفي حرب الخليج الثانية (34) وفي معرض إظهار احترامه لمقدسات الشعوب، أكّد جورج بوش (35) احترامه للعتبات المقدسة مؤكداً أن قوات التحالف سوف لا تتعرّض لها بأدنى سوء (36) ، وفي حرب إعلامية مضادة اتّهم صدام حسين (37) قوات التحالف بقصف الروضة المقدسة (38) .
ثم نراه هو وجلاوزته يقصفون تلك القباب المنورة (39) ويدنّسون الحضرة المطهرة في أعقاب حرب الخليج وهزيمته فيها، وتبجّح رئيس أركانه حسين كامل (40) مخاطباً الإمام الحسين عليه السّلام بقوله ( أنا حسين وأنت الحسين، فلنَرَ من هو الأقوى ) (41) . غايته كسر معنويات هذا الشعب الثائر الذي أراد أن ينتهج في انتفاضته (42) نهج صاحب هذا القبر الشريف.
ومما يتناقله أبناء هذه المدينة المقدسة أنّه ما من ظالمٍ أو متجبر من الملوك والرؤساء زار المرقد زيارة رسمية وعلنية أيام حكمه إلا وهلك أو أُزيح عن سدّة الحكم ولو بعد حين.
وكان للخلاف السياسي شبه المستمر الذي حكم العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية والإيرانية أثره البالغ في إغلاق أو فتح باب الزيارة للعتبات المقدسة، فهذا مدحت باشا (43) والي بغداد الذي سبق له أن هاجم مدينة كربلاء يوجّه دعوة للسلطان الإيراني (44) لزيارة العتبات المقدسة وعلى نفقة الإمبراطورية العثمانية، وهذا ملك إيران رضا بهلوي (45) يمنع الزوّار من الذهاب إلى العراق بقصد زيارة العتبات المقدسة لأسباب سياسية، ومع هذا يعتذر للرأي العام ويختلق الحجج خوفاً من الأبعاد السيئة لهذا المنع.
ومن الآثار القيمة والأبعاد المفيدة لوجود هذه العتبات المقدسة هو عمق تأثيرها في سياسة الحكام وسلوكهم واعتدال تصرفاتهم وتوازنها، وفي هذا الصدد ينقل الرهيمي (46) عن فيليب (47) في معرض ذكره لسيرة الملك فيصل الأول (48) حيث يقول: « ومنذ قدوم الملك فيصل إلى العراق كان يبدي تقرباً من علماء النجف وكربلاء والكاظمية عبر تقديم نفسه على أنه شيعي المذهب، وعبر زيارته العتبات المقدسة وتأديته الصلاة وفقاً للتقاليد الإسلامية الشيعية » (49) ، ويتطرق النفيسي (50) لدى بحثه عن تطور العراق السياسي وقيام الشيعة ضد الإحتلال البريطاني وعن ثورة العشرين ودور المراقد المقدسة حيث يقول: « وقد يُنظَر إلى هذه المقامات على أنها مجرد مراكز دينية ذات نفوذ واسع، ولكن المرء لا يستطيع أن يتغاضى عن كونها إلى جانب هذا ذاتَ نفوذ سياسي واسع النطاق بصفتها ملاذاً يلجأ إليه الزعماء السياسيون في أوقات الضيق عندما تنشأ أزمة حادة بينهم وبين السلطة العلمانية » (51) .
وبالنظر للأهمية السياسية والمكانة المعنوية لمدينة الحسين عليه السّلام فقد انطلقت منها شرارة ثورة العشرين، واتّخذ قادة الثورة من كربلاء مركزاً للقيادة التي تمخّض عنها استقلال العراق وتأسيس دولته الحديثة، وفيها صُمِّم عَلَم الاستقلال وشهدت المدينة مراسم رفع العلم للدولة العراقية الحديثة لأوّل مرة فوق بناية السراي (52) في احتفال حاشد حضرته وفود من أنحاء العراق كافة وذلك في يوم الغدير من عام 1338 هـ (53) .
هذا وقد صرح قادة الثورة الإسلامية في إيران مراراً بأنهم استلهموا مبادئ ثورتهم هذه من نهضة الإمام الحسين عليه السّلام، وقد لمست بنفسي ذلك حينما زرت السيّد الخميني (54) في مقر إقامته المؤقت في باريس (55) في أوج أحداث الثورة فوجدته قد التزم ختمة زيارة عاشوراء (56) ولمدة أربعين يوماً بتعجيل النصر وإسقاط حكومة بهلوي.
وفي هذا السياق قد أعلنوا بأن عدد قتلى حادث تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في طهران عام 1401 هـ بلغ اثنين وسبعين قتيلاً تيمّناً بعدد ما اشتهر من من قتلى الطف؛ وما ذلك إلاّ لمكانة الإمام الحسين عليه السّلام في نفوس الناس.


دور المراقد المقدسة في ترسيخ العلاقات بين الشعوب
إن المراقد المقدّسة في الجزيرة العربية والعراق وإيران ومصر وسوريا وفلسطين المغتصبة، وبالذات في المدينة المنورة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المشرّفة ومشهد المقدّسة وسامراء المشرّفة ودمشق والقاهرة والقدس الشريف، كانت سبباً مباشراً في توثيق عرى الأخوّة والمحبة بين الشعوب الإسلامية على اختلاف لغاتها وجنسياتها.
إنّ تدفّق الملايين سنوياً لزيارة العتبات المقدسة وتوقّف الكثير منهم في المدن المقدسة فترة طويلة، بل وهجرتهم أحياناً واستقرارهم الدائم، كان ذلك سبباً في توثيق أواصر العلاقة بين الشعوب الإسلامية وخَلْق وحدة تلقائية وواقعية، وتكوين مجتمع إسلاميّ متسامح يألف بعضُه البعضَ الآخر دون أدنى نزعة عصبية أو قومية.
وعندما استعمرت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى معظمَ بقاع العالم الإسلامي سعت إلى تمزيقه وشقّ وحدته وتقسيمه (57) ، فأضحى عالمنا الإسلامي مجموعة من الدول والإمارات المتنافرة، تتنازع حكوماتها على أتفه الأسباب وتختلق المبررات والأعذار الواهية في سبيل ذلك، فتشنّ الحروبَ الشرسة (58) وتغلق الحدود، ويهلك الحرث والنسل وتُبدد ثروة المسلمين الاقتصادية التي أنعمها الله على تلك البلدان.
لقد واجه الاستعمار صعوبة ومشكلة كبيرة في فصل ارتباط هذه الشعوب وتقارب بعضها مع البعض الآخر، وما زالت هذه المنطقة هي العقبةَ الأساس حتّى يومنا هذا، فهي تقف عائقاً أمام تمرير الخطط والمؤامرات التي تحيكها الدول الكبرى للسيطرة على المنطقة باستمرار.
فكثيراً ما قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين الدول الإسلاميّة كخطوة سلبية يَقْدم عليها الحاكم المسلم بتوجيه وضغط من دولة كبرى في أغلب الأحيان والحالات، ولكن تُضطَر هذه الحكومة وهذا الحاكم الإسلامي للتراجع أمام مدّ المطالبة الشعبية لإرجاع العلاقة بين الشعبين إلى سابق عهدها من القوة والمتانة التي أساسها التاريخ والدين والمصير المشترك الواحد.
لقد كان دور المراقد واضحاً ومؤثّراً في تنمية وتعميق العلاقات بين الشعوب الإسلاميّة على اختلاف قومياتها ومشاربها، ولعلّنا نرى قوافل الزائرين تنطلق باتّجاه المراقد بمجرّد عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بين البلدين (59) ، وغالباً ما أُدرِجت في محاضر وأجندة الاجتماعات واللقاءات السياسية بين المتخاصمين كقضيّة مهمة وساحنة بل كمحور تفاوضي تستفيد منه الحكومات في تخفيف نسبة التوتّر بين البلدين وتطبيع العلاقة بينهما (60) .
فالعلاقة التاريخية بين شعبين مسلمين خاضا حرباً سابقة (61) ، وجنحا إلى السلام، سرعان ما تعود إلى قوّتها ومتانتها بعد طول جفاء وخصام، ويكون المرقد الطاهر النبعَ الصافي الذي يغرف منه المتخاصمون أصول الرحمة والسلام والمحبة والأخوّة، والمَرْشح الذي ينقّي كلَّ ما علق من خلاف ونزاع وضغينة سبّبتها سنين الحرب وأعوام النزاع العجاف.


الدور الثقافي للمراقد
إن للثقافة مفهوماً عاماً، حيث إنها تحتضن مجموعة من الأمور، ولعلّ من أهمها، الفكر، الأدب، الإعلام.. فكل هذه الأمور منضوية تحت سقف الثقافة غايتها ومؤدّاها تنوير الإنسان الذي يشكّل اللبنة الأساس للمجتمع، ولا يمكن الاستغناء عنها في مسيرة الحياة الفردية أو الاجتماعية.
فالتعليم يشكّل أبجدية الثقافة؛ إذ بدونه يستعصي على الإنسان اقتحام أغلب جوانب الثقافة، وللمراقد دور فاعل في تنشيط حركة التعليم؛ وذلك لأن زيارة المراقد تُصنَّف مرتبتها عند الإمامية دون الواجب وفوق الاستحباب؛ لتأكيد أئمة المسلمين على ضرورة ممارستها ولو في أصعب الظروف كما اعتبروا تركها من الجفاء المَقيت. وللزيارة طقوس متنوّعة أهمها تلاوة نصوص معينة ـ تُسمّى الزيارة ـ في كلّ مناسبة، وقد حثّت الروايات على تلاوتها، فعندها يسعى الزائر إلى تعلّم القراءة كحدّ أدنى ـ وبالأخص في تلك الحقبة الزمنية ـ ليتمكن من قراءة تلك النصوص أوّلاً، كما أنه يسعى إلى فهم معانيها ثانياً، ليستوعب المقصود منها خضوعاً لنص بعض الزيارات « عارفاً بحقك » (62) والتي من سُبلها استيعاب تلك الفضائل والأمور المتضمّنة لها الزيارات، وبذلك يتجاوز المرء مرحلة الأمية ويُعدّ في عداد المتعلمين، وعندها يشعر بحلاوتها فيندرج في كسب العلم والمعرفة. ومن حركة الزيارة الدؤوب والمتواصلة طوال السنة في المناسبات الخاصة والعامة وتوافد الزائرين من أقطار العالم كافة، نشأت حركة تعليم اللغة العربية أيضاً إلى جانب لغة الزائر.
وفي ظل أجواء التوافد هذه وبالأخص لزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السّلام والذي تُعَدّ مدينته من أكثر المدن المقدسة في العالم الإسلامي استقبالاً للزوّار، حيث ذكرت بعض المصادر الخبرية الرسمية أن عدد الزائرين الذين أمّوا مدينة الحسين عليه السّلام في موسم الأربعين من شهر صفر لعام 1417 هـ بلغت سبعة ملايين زائر (63) من كافة الأصقاع، ومن شأن هذا النشاط والحركة على طول التاريخ أن تتبلور فيه الثقافات وتلتقي الحضارات فتتولّد في ظلها حركة فكرية كتعبير لازم وأثر حتمي لهذه الحالة، وبالفعل فقد نشأت وترعرعت مجموعة من المذاهب الفكرية التي كان لها دور مهم في تغيير المسار الفكري والعلمي في فترات زمنية مختلفة، ومن تلك الحركات الفكرية التي كانت لها صولات وجولات في هذه المدينة بالذات الحركة الإخبارية بقسميها (64) على سبيل المثال لا الحصر، والحركة الأُصولية التي لها الفضل في وضع الأسس المتينة في الفقه الإمامي، إلى جانب الحركات العقائدية.
ومن حتميات النهضة الفكرية الشاملة ولادة الحركة العلمية، وبالفعل فقد شهدت هذه المدينة العريقة والأصيلة حماسة علمية دؤوباً ومتنامية قلما تضاهيها مدينة أخرى.
فمنذ القرن الأول وفي ظل هجرة كبار الرواة والعلماء إلى جوار مرقد سبط الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله الإمام الحسين عليه السّلام أخذت المدينة تبني دعائمها العلمية، وشهدت القرون التالية ظهورها كمدينة علمية بارزة ومرموقة تبوأت جامعتُها العلمية مكانةً سامية، ولكنها كانت تخضع دوماً لعملية المد والجزر نتيجة الوضع السياسي الذي أصابت آثارُه مجملَ البقاع المقدّسة بشكل عام، وهذه المدينةَ بشكل خاص.
ووُضعت نواة هذه النهضة العلمية ببناء المرقد الشريف للإمام الحسين عليه السّلام، فازدحم العلماء والرواة وأصحاب القلم والفكر وأحاطوا بالروضة المباركة مستغلّين الغرف المحيطة بها والأروقة المشيّدة حولها، حتّى عجَّ الصحن الشريف بالدارسين والأساتذة من أصحاب العلم والفكر، مما حدا بالسلطان عضد الدولة (65) إلى تأسيس مدرسة علمية (66) لاستيعاب هذا النشاط العلمي وذلك لأول مرة في تاريخ العراق على الإطلاق، وكان ذلك في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري.
ومنذ قرونها الأولى خرّجت جامعة هذه المدينة المقدسة مئات العلماء والمفكرين وعشرات المراجع (67) ، وزخرت مكتبتها العلمية بألوف المؤلفات (68) التي صنّفها وألّفها خريجو هذه الجامعة في شتى صنوف العلم والمعرفة، والتي على أثرها ازدهرت حركة الكتابة والخط في عموم المنطقة، وشهدت أرضها المقدسة إنشاء أول مطبعة في العراق (69) .
ويُعدّ القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان العصرَ الذهبي لمدينة الحسين عليه السّلام من بين القرون من الناحية العلمية والفكرية، ولم تقتصر النهضة العلمية في هذه الجامعة على علوم الفقه والحديث والأصول، بل شملت العلوم العقلية والنقلية كافة، الإسلامية منها والعربية، إلى جانب علوم الطبيعة والفلك والطب وغيرها. وكان للمرأة دور بارز في تداول العلوم الإسلامية والعربية حيث ارتقت إلى مصاف العلماء الأعلام، وحاز عدد منهن مكانة علمية سامية كما سبقت الإشارة إليه في محله (70) .
ومن الخليق بيانه أن هذه المراقد تُعتبر مركزاً للإلهام ومنهلاً للعلم، ولذا نجد أن كل المراقد المنتسبة إلى أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله تُحاط بمجموعة كبيرة من حملة العلم والفكر والأدب، وفيها صروح للعلم بدءاً بمركز المدينة المنوّرة والنجف الأشرف وكربلاء المقدّسة والكاظمية المشرّفة ومشهد المقدّسة وسامراء المشرّفة وحيّ السيّدة زينب في دمشق والقاهرة وقم المقدسة والسيّد عبدالعظيم في الريّ إلى غيرها (71) ، ممّا يدلنا على أن هذه المراقد تستقطب العلماء والمفكرين والأدباء، وتخلق من وجودهم مراكزَ للعلم والفكر والأدب.
ولا يخفى أن المركز العلمي يولّد طبقة لها اهتماماتها بالأدب بشكل عام وبالشعر بشكل خاص يوازي الحركة العلمية ويواكبها، وهذا ما نشاهده في المراكز العلمية كافة، فكلما زادت الحركة العلمية تألقاً زادت معها الحركة الأدبية نشاطاً واضطراداً، ولكنّ الذي يميّز مرقد الإمام الحسين عليه السّلام عن غيره من مراقد أهل البيت عليهم السّلام أنّ الإمام الحسين عليه السّلام بحد ذاته أصبح رافداً زاخراً ومنهلاً ثراً للأدب ونظم الشعر، وأصبح مرقده الشريف مهوىً للعشاق ومركزاً للإشعاع الأدبي الفريد من نوعه، يغرف منه القريب المجاور وينهل منه البعيد الزائر، وقد تطرّقنا إلى ذلك في محله (72) .
وأيضاً ـ ومن خلال ما قدمناه من أدوار ـ يظهر جلياً الدور الإعلامي لهذه المراقد المقدسة، إذ تُعتبر مركزاً للتلاقي والانبعاث من جديد، وبما تحمله مواسم الزيارة من مقوّمات حقيقية للإعلام، فقد استغل العلماء والمفكرون والأحرار هذا التجمع الحاشد في تلك المواسم كنقطة انطلاق لنشر الفكر الإسلامي ومبادئه، وقد شُوهدت الحركة الإعلامية في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري وكيف كانت الكتيّبات والمنشورات بل الكتب الفكرية والعقائدية تُوزَّع باللغات الشرقية والغربية في مدينة الحسين عليه السّلام، بينما كان الخطباء ينتهزون هذه الفرصة لإلقاء المحاضرات والخطب الهادفة على الجماهير، بالإضافة إلى التجمّعات والمؤتمرات التي كانت تُقام في رحاب المرقد الحسيني وغيره من المراقد الشريفة، ومن الجدير بيانه أن أُولى الصحف الوطنية صدرت من كربلاء والنجف في قبال الصحف التي أصدرتها حكومة الاحتلال البريطاني والجيش العثماني من بغداد والبصرة (73) .


الدور الديني للمراقد
غير خفيّة آثارُ ومعالم هذه الناحية على أحد، إذ أن الظاهرة الدينية في المجتمعات الإسلاميّة التي فيها مراقد الأئمّة عليهم السّلام تطغى على غيرها من الظواهر بشكل واضح وظاهر للعيان، فتُصبَغ التعاملات والسلوكيات والعلاقات الإنسانية بطابع ديني لا سبيل لإنكاره.
ويبدو واضحاً أن الدافع الديني والرغبة في بناء مجتمع فاضل كان الدافع الأساس لهجرة الناس وسكنهم بجوار المراقد، ولعل بناء وتشييد حاضرة مدينة كربلاء المقدسة المثالُ الصادق لما نقول.
وقد ترتّب على ضوء التزام أبناء هذه المدينة المقدسة وانقيادهم طواعية لأحكام وقواعد هذه الظاهرة منافع جمة، أهمها: أنّ الصفة الغالبة للعلاقة الاجتماعية والأُسرية التي تربطهم هي الحب والود والرحمة والتسامح والسلام، وهي أخلاق وشمائل جاهد صاحب هذه البقعة الشريفة وبذل النفس من أجل ترسيخها وزرعها في النفوس، حيث تختفي النزاعات والمشاكل الاجتماعية بينهم إلى حد بعيد، وأصبح من النادر مراجعتهم السلطات القضائية لحل نزاعاتهم وشكاواهم بل يميلون للذهاب إلى علمائهم وكبارهم لفصل الخصومات وللتحكيم، وعلى هذا الأساس يشير النفيسي إلى ما لمرقد الإمام الحسين عليه السّلام وأخيه العباس عليه السّلام من دور عظيم في حل الخصومة والنزاع فيقول: « ولهذه المقامات المقدّسة حرمتها القضائية، إذ أنّ القاضي الشرعي لا يقبل القَسَم إذا كان حلّ الدعوى يتطلب القسم إلا أن يكون داخلَ الحرم؛ لأنه أوقعُ في النفس وأقرب إلى الواقع ». ويضيف قائلاً: « وأصبحت المراقد وقبور الأئمّة والأولياء، مراكزَ يُقسَم بحرمتها في جميع أنحاء الفرات الأوسط والأسفل... وأهم المراقد حرمة مرقد العباس بن علي في كربلاء، والعباس عندهم رجل شديد الغَيرة يقولون عنه بلغتهم ـ رأسه حار ـ ويريدون بذلك أنه لا يتغاضى عن إثم رجل يستعمل اسمه في قَسَمٍ كاذب » (74) .
هذه الفكرة وهذه القدسية بحد ذاتها تساعد على خلق وإشاعة جوّ روحيّ بين الناس، بعيدٍ عن الكذب والنفاق، فيسلم الناس وتتحصّن علاقتهم الاجتماعية من فتك مرضٍ اجتماعي خطير، فيعيشون حياتهم بعيداً عن أجواء المحاكم والعقوبات (75) وما تجرّه من تبعات ومشاكل، ويأمنون على أموالهم وأنفسهم بنسبة كبيرة بالقياس مع بقية المدن الأخرى وتلك التي لا تعتقد بذلك.
يقول النفيسي في محلّ آخر: « لا يستطيع امرؤ خارج نطاق الشيعة أن ينكر ما لهذه المراقد المقدسة من خير ونفع، ولا سيّما لدى المحاكم الشرعية التي تلجأ أحياناً في فضّ الخصومات والدعاوى إلى القَسَم في إحداها لتجريم المذنب أو لتبرئة البريء، إنّ انتشار هذه المراقد عاملُ استقرار في حقل الاتفاقات التجارية والمعاهدات القِبلية، ويخلق جواً من الثقة المتبادلة في حقل العلاقات الاجتماعية » (76) .
ويكاد ينعدم في مثل هذه المجتمعات الدينية المحافظة أيُّ أثر للمنكرات والمفاسد والصراعات والآفات الاجتماعية بشتى صورها، فالمواد الكحولية مثلاً ونوادي الفساد الليلية معدومة ومحظورة عرفاً وقانوناً في مثل هذه المدن المقدسة، على رغم سعي بعض الأنظمة الحاكمة لتغيير هذه المجتمعات المحافظة والملتزمة بمعتقداتها وتحويلها إلى مجتمعات مهزوزة ومفكّكة، وذلك بذرائع مختلفة ووسائل متنوعة، وعلى سبيل المثال أقدمت السلطات العراقية في نهاية القرن الرابع عشر الهجري على استقدام الأيدي العاملة من بلدان عدة (77) إلى مدينة كربلاء بشكل لا يتناسب ومكانة هذه المدينة المقدسة وقدرتها واستيعابها وطبيعة جوها الفكري والديني المحافظ، وإيغالاً في التخريب فقد أنشأت مراكزَ وبُؤرَ فساد على بحيرة الرزّازة القريبة من المدينة بغرض نزع واقتلاع الصفة الدينية والثقافية المحافظة لأبناء هذه المدينة وخاصة الشباب منهم، وحاولت السلطة الحكومية تدنيس المدينة عبر إرسالها الوفود النسائية السافرة والخليعة لخلق جوّ من الميوعة والاستهتار والفساد وإسقاط هيبة وحرمة المدينة، إلاّ أن الفشل كان حليفها على الدوام (78) .
إن المجتمعات الدينية التي خلقتها هذه المراقد لها ميزاتها الحسنة التي يشعر فيها الإنسان بالراحة والطمأنينة والأمان بعيداً عن القلق والرعب.
لقد كان للمرقدَين: العلويّ والحسينيّ، أثرهما البالغ والعميق في تشيّع جنوب العراق وزرع بذوره وأنواره في المنطقة، وفي هذا الصدد يقول حنّا بطاطو (79) : « قبل قرابة ألف سنة خلت كان أبو بكر الخوارزميُّ (80) قد حسد شعب العراق لأنه كما قال: يوجد بينهم مقاما أمير المومنين عليه السّلام والحسين سيد الشهداء عليه السّلام (81) ، وفي تلك الأيام لم يكن اسم العراق يشير إلى حدود العراق اليوم بل فقط إلى ذلك الجزء من جنوب الخط الذي بين الأنبار (82) على الفرات وتكريت (83) على دجلة، أي أن عراق تلك الأيام كان يتطابق مع ما هو موطن الشيعة وكان قلب الطائفة يومها ـ كما هو اليوم ـ في الفرات الأوسط، وفي كربلاء سُفك في العام 680 م دم الحسين البذرة الحقيقية ـ للعقيدة الشيعية ـ (84) إضافة إلى قوة الاستمرارية التي هي طبيعة الأديان، وخصوصاً المضطهدة؛ فإنّ أحد العوامل الواضحة التي ضمنت ديمومة النفوذ الشيعي كان وجود المقامات الشيعية في النجف وكربلاء » (85) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق